فصل: تفسير الآيات رقم (57- 66)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 66‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏58‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ‏(‏59‏)‏ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏60‏)‏ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏61‏)‏ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏64‏)‏ وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏65‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الناس‏}‏ يعني‏:‏ قريشاً ‏{‏قد جاءتكم موعظة من ربكم‏}‏ القرآن ‏{‏وشفاءٌ لما في الصدور‏}‏ ودواءٌ لداء الجهل ‏{‏وهدىً‏}‏ وبيانٌ من الضَّلالة ‏{‏ورحمةٌ للمؤمنين‏}‏ ونعمةٌ من الله سبحانه لأصحاب محمَّدٍ‏.‏

‏{‏قل بفضل الله‏}‏ الإِسلام ‏{‏وبرحمته‏}‏ القرآن ‏{‏فبذلك‏}‏ الفضل والرَّحمة ‏{‏فليفرحوا هو خيرٌ‏}‏ أَيْ‏:‏ ما آتاهم الله من الإِسلام والقرآن خيرٌ ممَّا يجمع غيرهم من الدُّنيا‏.‏

‏{‏قل‏}‏ لكفَّار مكَّة‏:‏ ‏{‏أرأيتم ما أنزل الله‏}‏ خلقه وأنشأه لكم ‏{‏من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً‏}‏ يعني‏:‏ ما حرَّموه ممَّا هو حلالٌ لهم من البحيرة وأمثالها، وأحلُّوه ممَّا هو حرامٌ من الميتة وأمثالها ‏{‏قل الله أذن لكم‏}‏ في ذلك التَّحريم والتَّحليل ‏{‏أم‏}‏ بل ‏{‏على الله تفترون‏}‏‏.‏

‏{‏وما ظنُّ الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة‏}‏ أَيْ‏:‏ ما ظنُّهم ذلك اليوم بالله وقد افتروا عليه‏؟‏ ‏{‏إنَّ الله لذو فضلٍ على الناس‏}‏ أهل مكَّة حين جعلهم في أمنٍ وحرمٍ إلى سائر ما أنعم به عليهم ‏{‏ولكنَّ أكثرهم لا يشكرون‏}‏ لا يُوحدِّون ولا يُطيعون‏.‏

‏{‏وما تكون‏}‏ يا محمَّد ‏{‏في شأن‏}‏ أمرٍ من أمورك ‏{‏وما تتلوا منه‏}‏ من الله ‏{‏من قرآنٍ‏}‏ أنزله عليك ‏{‏ولا تعملون من عمل‏}‏ خاطبه وأمَّته ‏{‏إلاَّ كُنَّا عليكم شهوداً‏}‏ نشاهد ما تعلمون ‏{‏إذ تفيضون‏}‏ تأخذون ‏{‏فيه وما يعزب‏}‏ يغيب ويبعد ‏{‏عن ربك من مثقال ذرة‏}‏ وزن ذرَّة ‏{‏إلاَّ في كتاب مبين‏}‏ يريد‏:‏ اللَّوح المحفوظ الذي أثبت الله سبحانه فيه الكائنات‏.‏

‏{‏ألا إنَّ أولياء الله‏}‏ هم الذين تولَّى الله سبحانه هداهم‏.‏

‏{‏الذين آمنوا‏}‏ صدَّقوا النبيَّ ‏{‏وكانوا يتقون‏}‏ خافوا مقامهم بين يدي الله سبحانه‏.‏

‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا‏}‏ عند الموت تأتيهم الملائكة بالبشرى من الله ‏{‏وفي الآخرة‏}‏ يُبشَّرون بثواب الله وجنَّته ‏{‏لا تبديل لكلمات الله‏}‏ لا خلف لمواعيده‏.‏

‏{‏ولا يحزنك قولهم‏}‏ تكذيبهم إيَّاك ‏{‏إنَّ العزة لله‏}‏ القوَّة لله والقدرة لله ‏{‏جميعاً‏}‏ وهو ناصرك ‏{‏وهو السميع‏}‏ يسمع قولهم ‏{‏العليم‏}‏ بما في ضميرهم، فيجازيهم بما يقتضيه حالهم‏.‏

‏{‏ألاَّ إن لله مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض‏}‏ يعني‏:‏ يفعل بهم وفيهم ما يشاء ‏{‏وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء‏}‏ أيْ‏:‏ ليسوا يتَّبعون شركاء على الحقيقة؛ لأنَّهم يعدُّونها شركاء شفعاء لهم، وليست على ما يظنُّون ‏{‏إن يتبعون إلاَّ الظنَّ‏}‏ ما يتَّبعون إلاَّ ظنَّهم أنَّها تشفع لهم ‏{‏وإن هم إلا يخرصون‏}‏ يقولون ما لا يكون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً‏}‏ مُضيئاً لتهتدوا به في حوائجكم ‏{‏إنًّ في ذلك لآيات لقومٍ يسمعون‏}‏ سَمعَ اعتبار‏.‏

‏{‏قالوا اتَّخذ الله ولداً‏}‏ يعني‏:‏ قولهم‏:‏ الملائكة بنات الله ‏{‏سبحانه‏}‏ تنزيهاً له عمَّا قالوه ‏{‏هو الغنيُّ‏}‏ أن يكون له زوجةٌ أو ولدٌ ‏{‏إنْ عندكم من سلطانٍ بهذا‏}‏ ما عندكم من حجَّةٍ بهذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏متاع في الدنيا‏}‏ أيْ‏:‏ لهم متاعٌ في الدُّنيا يتمتَّعون به أيَّاماً يسيراً، وقوله‏:‏

‏{‏إن كان كَبُرَ عليكم مقامي‏}‏ أَيْ‏:‏ عَظُم وشقَّ عليكم مكثي ولبثي فيكم ‏{‏وتذكيري بآيات الله‏}‏ وعظي وتخويفي إيَّاكم عقوبة الله ‏{‏فعلى الله توكلت‏}‏ فافعلوا ما شئتم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فأجمعوا أمركم وشركاءَكم‏}‏ أَيْ‏:‏ اعزموا على أمرٍ مُحكمٍ تجتمعون عليه ‏{‏وشركاءكم‏}‏ مع شركائكم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ وادعوا شركاءكم يعني‏:‏ آلهتكم ‏{‏ثمِّ لا يكن أمركم عليكم غمة‏}‏ أَيْ‏:‏ ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً تتمكنون فيه ممَّا شئتم لا كمَنْ يكتم أمراً ويخفيه، فلا يقدر أن يفعل ما يريد ‏{‏ثمَّ اقضوا إليَّ‏}‏ افعلوا ما تريدون، وامضوا إليَّ بمكروهكم ‏{‏ولا تنظرون‏}‏ ولا تُؤخِّروا أمري، والمعنى‏:‏ ولا تألوا في الجمع والقوَّة؛ فإنَّكم لا تقدرون على مساءتي؛ لأنَّ لي إلهاً يمنعني، وفي هذا تقويةٌ لقلب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، لأنَّ سبيله مع قومه كسبيل الأنبياء من قبله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏فإن توليتم‏}‏ أعرضتم عن الإِيمان ‏{‏فما سألتكم من أجر‏}‏ مالٍ تعطونيه، وهذا من قول نوح عليه السَّلام لقومه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏فما كانوا ليؤمنوا‏}‏ يعني‏:‏ أمم الأنبياء والرُّسل ‏{‏بما‏}‏ كذَّب به قوم نوح‏.‏ أَيْ‏:‏ هؤلاء الآخرون لم يؤمنوا بما كذَّب به أوَّلُوهم، وقد علموا أنَّ الله سبحانه أغرقهم بتكذيبهم، ثم قال‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ كما طبعنا على قلوبهم ‏{‏نطبع على قلوب المعتدين‏}‏ المُجاوزين الحقّ إلى الباطل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏قالوا أجئتنا لتلفتنا‏}‏ لتردَّنا ‏{‏عمَّا وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء‏}‏ الملك والعزُّ ‏{‏في الأرض‏}‏ في أرض مصر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 83‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏81‏)‏ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏82‏)‏ فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ الله سيبطله‏}‏ سيهلكه ‏{‏إنَّ الله لا يصلح عمل المفسدين‏}‏ لا يجعله ينفعهم‏.‏

‏{‏ويحق الله الحق‏}‏ ويظهره بالدَّلائل الواضحة ‏{‏بكلماته‏}‏ بوعده‏.‏

‏{‏فما آمن لموسى إلاَّ ذرية من قومه‏}‏ يعني‏:‏ مَنْ آمن به من بني إسرائيل، وكانوا ذريَّة أولاد يعقوب ‏{‏على خوفٍ من فرعون ومَلَئِهِمْ‏}‏ ورؤسائهم ‏{‏أن يفتنهم‏}‏ يصرفهم عن دينهم بمحنةٍ وبليَّةٍ يوقعهم فيها ‏{‏وإنَّ فرعون لعالٍ‏}‏ متطاولٌ ‏{‏في الأرض‏}‏ في أرض مصر ‏{‏وإنه لمن المفسرين‏}‏ حيث كان عبداً فادَّعى الرُّبوبيَّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تُظهرهم علينا فيروا أنَّهم خيرٌ منا، فيزدادوا طغياناً ويقولوا‏:‏ لو كانوا على حقٍّ ما سُلِّطنا عليهم، فَيُفتنوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏87‏)‏ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏وأوحينا إلى موسى وأخيه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ لمَّا أُرسل موسى صلوات الله عليه إلى فرعون أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فَخُرِّبت كلُّها، ومُنعوا من الصَّلاة، فأُمروا أن يتَّخذوا مساجد في بيوتهم، ويصلُّوا فيها خوفاً من فرعون، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏تَبَوَّأا لقومكما‏}‏ أَيْ‏:‏ اتَّخذا لهم ‏{‏بمصر بيوتاً‏}‏ في دورهم ‏{‏واجعلوا بيوتكم قبلة‏}‏ أَيْ‏:‏ صلُّوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف، وقوله‏:‏

‏{‏ربنا ليضلوا عن سبيلك‏}‏ أَيْ‏:‏ جعلت هذه الأموال سبباً لضلالهم؛ لأنَّهم بطروا، فاستكبروا عن الإِيمان ‏{‏ربنا اطمس على أموالهم‏}‏ امسخها وأذهبها عن صورتها، فصارت دراهمهم ودنانيرهم حجارةً منقوشةً صحاحاً وأنصافاً، وكذلك سائر أموالهم ‏{‏واشدُدْ على قلوبهم‏}‏ اطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإِيمان ‏{‏فلا يؤمنوا‏}‏ دعاءٌ عليهم ‏{‏حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ يعني‏:‏ الغرق، فاستجيب في ذلك، فلم يؤمن فرعون حتى أدركه الغرق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 92‏]‏

‏{‏قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏90‏)‏ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏91‏)‏ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏قال قد أجيبت دعوتكما‏}‏ وذلك أنَّ موسى دعا، وأمَّن هارون ‏{‏فاستقيما‏}‏ على الرِّسالة والدًّعوة ‏{‏ولا تَتَّبِعَانِّ سبيل الذين لا يعلمون‏}‏ لا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلا قضائي، وقوله‏:‏

‏{‏فأتبعهم فرعون وجنوده‏}‏ طلبوا أن يلحقو بهم ‏{‏بغياً‏}‏ طلباً للاستعلاء بغير حقٍّ ‏{‏وعدواً‏}‏ ظلماً ‏{‏حتى إذا أدركه الغرق‏}‏ تلفَّظ بما أخبر الله عنه حين لم ينفعه ذلك، لأنَّه رأى اليأس وعاينه، فقيل له‏:‏ ‏{‏آلآن وقد عصيت قبل‏}‏ أَيْ‏:‏ آلآن تؤمن أو تتوب‏؟‏ فلمَّا أغرقه الله جحد بعض بني إسرائيل غَرَقَةُ، وقالوا‏:‏ هو أعظم شأناً من أن يغرق، فأخرجه الله سبحانه من الماء حتى رأوه، فذلك قوله‏:‏

‏{‏فاليوم ننجيك‏}‏ نخرجك من البحر بعد الغرق ‏{‏ببدنك‏}‏ بجسدك الذي لا روح فيه ‏{‏لتكون لمَنْ خلفك آية‏}‏ نكالاً وعبرةً ‏{‏وإنَّ كثيراً من الناس‏}‏ يريد‏:‏ أهل مكَّة ‏{‏عن آياتنا‏}‏ عمَّا يراد بهم ‏{‏لغافلون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 94‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏93‏)‏ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد بوَّأنا بني إسرائيل مبوَّأ صدق‏}‏ أنزلنا قريظة والنضير منزل صدقٍ، أَيْ‏:‏ محموداً مختاراً، يريد‏:‏ من أرض يثرب، ما بين المدينة والشّام ‏{‏ورزقناهم من الطيبات‏}‏ من النَّخل والثِّمار، ووسَّعنا عليهم الرِّزق ‏{‏فما اختلفوا‏}‏ في تصديق النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنَّه رسولٌ مبعوثٌ ‏{‏حتى جاءهم العلم‏}‏ حقيقةُ ما كانوا يعلمونه، وهو محمَّد عليه السَّلام بنعته وصفته، والقرآن، وذلك أنَّهم كانوا يُخبرون عن زمانه ونبوَّته، ويؤمنون به، فلمَّّا أتاهم اختلفوا، فكفر به أكثرهم‏.‏

‏{‏فإن كنت في شك‏}‏ هذا في الظَّاهر خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمراد به غيره من الشَّاكِّين في الدِّين، وقوله‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلِ الذين يقرؤون الكتاب من قبلك‏}‏ يعني‏:‏ مَنْ آمن من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه، فيشهدون على صدق محمد، ويخبرون بنبوَّته وباقي الآية والتي تليها خطاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 102‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏97‏)‏ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏98‏)‏ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏99‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏100‏)‏ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏101‏)‏ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ الذين حقت عليهم كلمة ربك‏}‏ وجبت عليهم كلمة العذاب‏.‏

‏{‏لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آية‏}‏ وذلك أنَّهم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالآيات حتى يؤمنوا، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آية حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ فلا ينفعهم حينئذٍ الإِيمان كما لم ينفع فرعون‏.‏

‏{‏فلولا كانت قرية‏}‏ أَيْ‏:‏ فما كانت قريةٌ ‏{‏آمنت فنفعها إيمانها‏}‏ عند نزول العذاب ‏{‏إلاَّ قوم يونس لما آمنوا‏}‏ عند نزول العذاب ‏{‏كشفنا عنهم عذاب الخزي‏}‏ يعني‏:‏ سخط الله سبحانه ‏{‏ومتعناهم إلى حين‏}‏ يريد‏:‏ حين آجالهم، وذلك أنَّهم لمَّا رأوا الآيات التي تدلُّ على قرب العذاب أخلصوا التَّوبة، وترادُّوا المظالم، وتضرَّعوا إلى الله تعالى، فكشف عنهم العذاب‏.‏

‏{‏ولو شاء ربك لآمن مَنْ في الأرض كلهم جميعاً‏}‏ الآية‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يؤمن جميع النَّاس، فأخبره الله سبحانه أنَّه لا يؤمن إلاَّ من سبق له من الله السَّعادة، وهو قوله‏:‏

‏{‏وما كان لنفس أن تؤمن إلاَّ بإذن الله‏}‏ أَيْ‏:‏ إلاَّ بما سبق لها في قضاء الله وقدره ‏{‏ويجعل الرجس‏}‏ العذاب ‏{‏على الذين لا يعقلون‏}‏ عن الله تعالى أمره ونهيه وما يدعوهم إليه‏.‏

‏{‏قل‏}‏ للمشركين الذين يسألونك الآيات‏:‏ ‏{‏انظروا ماذا‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ الذي أعظم منها‏]‏ ‏{‏في السموات والأرض‏}‏ من الآيات والعبر التي تدلُّ على وحدانيَّة الله سبحانه، فيعلموا أنَّ ذلك كلَّه يقتضي صانعاً لا يشبه الأشياء، ولا تشبهه، ثمَّ بيَّن أنَّ الآيات لا تُغني عمَّن سبق في علم الله سبحانه أنَّه لا يؤمن فقال‏:‏ ‏{‏وما تغني الآيات والنذر‏}‏ جمع نذير ‏{‏عن قومٍ لا يؤمنون‏}‏ يقول‏:‏ الإنذار غير نافعٍ لهؤلاء‏.‏

‏{‏فهل ينتظرون‏}‏ أَيْ‏:‏ يجب ألا ينتظروا بعد تكذيبك ‏{‏إلاَّ مثل أيام الذين خلوا من قبلهم‏}‏ إلاَّ مثل وقائع الله سبحانه فيمَنْ سلف قبلهم من الكفَّار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 109‏]‏

‏{‏ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏104‏)‏ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏105‏)‏ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏106‏)‏ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏107‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏108‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏ثمَّ ننجي رسلنا والذين آمنوا‏}‏ هذا إخبارٌ عن ما كان الله سبحانه يفعل في الأمم الماضية من إنجاء الرُّسل والمُصدِّقين لهم عما يعذِّب به مَنْ كفر ‏{‏كذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ مثل هذا الإِنجاء ‏{‏ننج المؤمنين‏}‏ بمحمَّد صلى الله عليه وسلم من عذابي‏.‏

‏{‏قل يا أيها الناس‏}‏ يريد‏:‏ أهل مكَّة ‏{‏إن كنتم في شك من ديني‏}‏ الذي جئت به ‏{‏فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله‏}‏ أيْ‏:‏ بشكِّكم في ديني لا أعبد غير الله ‏{‏ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم‏}‏ يأخذ أرواحكم، وفي هذا تهديدٌ لهم؛ لأنَّ وفاة المشركين ميعاد عذابهم، وقوله‏:‏

‏{‏وأن أقم وجهك للدين حنيفاً‏}‏ استقم بإقبالك على ما أُمرت به بوجهك‏.‏

‏{‏ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرُّك‏}‏ أَيْ‏:‏ شيئاً ما؛ لأنَّه لا يتحقق النَّفع والضَّرُّ إلاَّ من الله، فكأنَّه قال‏:‏ ولا تدع من دون الله شيئاً‏.‏

‏{‏وإن يمسسك بضرٍّ‏}‏ بمرضٍ وفقرٍ ‏{‏فلا كاشف له‏}‏ لا مزيل له ‏{‏إلاَّ هو‏}‏، ‏{‏وإن يردك بخيرٍ‏}‏ يرد بك الخير ‏{‏فلا رادَّ لفضله‏}‏ لا مانع لما تفضَّل به عليك من رخاءٍ ونعمةٍ ‏{‏يصيب به‏}‏ بكلَّ واحدٍ ممَّا ذُكر ‏{‏من يشاء من عباده‏}‏‏.‏

‏{‏قل يا أيها الناس‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكَّة ‏{‏قد جاءكم الحق‏}‏ القرآن ‏{‏من ربكم‏}‏ وفيه البيان والشِّفاء ‏{‏فمن اهتدى‏}‏ من الضَّلالة ‏{‏فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ يريد‏:‏ مَنْ صدَّق محمَّداً عليه السَّلام فإنَّما يحتاط لنفسه ‏{‏ومَنْ ضلَّ‏}‏ بتكذيبه ‏{‏فإنما يضلُّ عليها‏}‏ إنَّما يكون وبال ضلاله على نفسه ‏{‏وما أنا عليكم بوكيلٍ‏}‏ بحفيظٍ من الهلاك حتى لا تهلكوا‏.‏

‏{‏واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله‏}‏ نسخته آية السَّيف؛ لأنَّ الله سبحانه حكم بقتل المشركين، والجزية على أهل الكتاب‏.‏

سورة هود

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ‏(‏1‏)‏ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ‏(‏2‏)‏ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الر‏}‏ أنا الله الرَّحمن ‏{‏كتاب‏}‏ هذا كتابٌ ‏{‏أُحْكمتْ آياته‏}‏ بعجيب النَّظم، وبديع المعاني ورصين اللَّفظ ‏{‏ثمَّ فصلت‏}‏ بُيِّنت بالأحكام من الحلال والحرام، وجميع ما يحتاج إليه من ‏{‏لدن حكيم‏}‏ في خلقه ‏{‏خبير‏}‏ بمَنْ يُصدِّق نبيَّه وبمَنْ يُكذِّبه‏.‏

‏{‏ألا تعبدوا‏}‏ أَيْ‏:‏ بأن، والتَّقدير‏:‏ هذا كتابٌ بأن لا تعبدوا ‏{‏إلاَّ الله‏}‏‏.‏

‏{‏و‏}‏ ب ‏{‏أن استغفروا ربكم‏}‏ أَيْ‏:‏ من ذنوبكم السَّالفة ‏{‏ثم توبوا إليه‏}‏ من المستأنفة متى وقعت ‏{‏يمتعكم متاعاً حسناً‏}‏ يتفضَّل عليكم بالرِّزق والسِّعة ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ أجل الموت ‏{‏ويؤت كلَّ ذي فضلٍ فضله‏}‏ يؤت كلَّ مَنْ فَضُلَت حسناته على سيئاته فضله؛ يعني‏:‏ الجنَّة، وهي فضل الله سبحانه ‏{‏وإن تولوا‏}‏ تتولَّوا عن الإِيمان ‏{‏فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير‏}‏ وهو يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 11‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏5‏)‏ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏6‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏8‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ‏(‏9‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ‏(‏10‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏ألا إنهم يثنون صدورهم‏}‏ نزلت في طائفةٍ من المشركين قالوا‏:‏ إذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وطوينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم كيف يعلم ربُّنا‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إنهم يثنون صدورهم‏}‏ أَيْ‏:‏ يعطفونها ويطوونها على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏ليستخفوا منه‏}‏ ليتواروا عنه ويكتموا عداوته ‏{‏ألا حين يستغشون ثيابهم‏}‏ يتدثَّرون بها ‏{‏يعلم ما يسرون وما يعلنون‏}‏ أعلم الله سبحانه أنَّ سرائرهم يعلمها كما يعلم مظهرهم ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏ بما في النُّفوس من الخير والشَّرِّ‏.‏

‏{‏وما من دابة‏}‏ حيوانٍ يدبُّ ‏{‏في الأرض إلاَّ على الله رزقها‏}‏ فضلاً لا وجوباً ‏{‏ويعلم مستقرها‏}‏ حيث تأوي إليه ‏{‏ومستودعها‏}‏ حيث تموت ‏{‏كلٌّ في كتاب مبين‏}‏ يريد‏:‏ اللَّوح المحفوظ، والمعنى‏:‏ أنَّ ذلك ثابتٌ في علم الله‏.‏

‏{‏وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام‏}‏ ذكرنا تفسيره في سورة الأعراف ‏{‏وكان عرشه على الماء‏}‏ يعني‏:‏ قبل خلق السَّموات والأرض ‏{‏ليبلوكم‏}‏ أَيْ‏:‏ خلقها لكم لكي يختبركم بالمصنوعات فيها من آياته؛ ليعلم إحسان المحسن وإساءة المسيء، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيكم أحسن عملاً‏}‏ أَيْ‏:‏ أَعملُ بطاعة الله تعالى‏.‏ ‏{‏ولئن قلت‏}‏ للكفَّار بعد خلق الله السَّموات والأرض وبيان قدرته ‏{‏إنكم مبعوثون من بعد الموت‏}‏ كذَّبوا بذلك وقالوا‏:‏ ‏{‏إن هذا إلاَّ سحر مبين‏}‏ أَيْ‏:‏ باطلٌ وخداعٌ‏.‏

‏{‏ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة‏}‏ إلى أجلٍ وحينٍ معلومٍ ‏{‏ليقولَّن ما يحبسه‏}‏ ما يحبس العذاب عنا‏؟‏ تكذيباً واستهزاء، فقال الله سبحانه‏:‏ ‏{‏ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم‏}‏ إذا أخذتهم سيوف المسلمين لم تغمد عنهم حتى يُباد الكفر، وتعلوَ كلمة الإِخلاص ‏{‏وحاق‏}‏ نزل وأحاط ‏{‏بهم‏}‏ جزاء ‏{‏ما كانوا به يستهزئون‏}‏ وهو العذاب والقتل‏.‏

‏{‏ولئن أذقنا الإِنسان‏}‏ يعني‏:‏ الوليد بن المغيرة ‏{‏منَّا رحمة‏}‏ رزقاً ‏{‏ثمَّ نزعناها منه إنَّه ليؤسٌ‏}‏ مُؤْيَسٌ قانطٌ ‏{‏كَفُور‏}‏ كافرٌ بالنِّعمة‏.‏ يريد‏:‏ إنَّه لجهله بسعة رحمة الله يستشعر القنوط واليأس عند نزول الشِّدَّة‏.‏

‏{‏ولئن أذقناه نعماء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ معناه‏:‏ إنَّه يبطر فينسى حال الشِّدَّة، ويترك حمد الله على ما صرف عنه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ليقولنَّ ذهب السيئات عني‏}‏ فارقني الضُّرُّ والفقر ‏{‏إنه لفرحٌ فخورٌ‏}‏ يُفاخر المؤمنين بما وسَّعَ الله عليه، ثمَّ ذكر المؤمنين فقال‏:‏

‏{‏إلاَّ الذين صبروا‏}‏ والمعنى‏:‏ لكن الذين صبروا على الشِّدَّة والمكاره ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ في السَّراء والضرَّاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏12‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏13‏)‏ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏فعلك تاركٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ائتنا بكتابٍ ليس فيه سبُّ آلهتنا حتى نتَّبعك، وقال بعضهم‏:‏ هلاَّ اُنزل عليك مَلَكٌ يشهد لك بالنُّبوَّة والصِّدق، أو تُعطى كنزاً تستغني به أنت وأتباعك، فهمَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يدع سبَّ آلهتهم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك‏}‏ أَيْ‏:‏ لعظيم ما يَرِدُ على قلبك من تخليطهم تتوهَّم أنَّهم يُزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربِّك ‏{‏وضائق به صدرك أن يقولوا‏}‏ أَيْ‏:‏ ضائق صدرك بأن يقولوا ‏{‏لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير‏}‏ عليك أن تُنذرهم، وليس عليك أن تأتيهم بما يقترحون ‏{‏والله على كلِّ شيء وكيل‏}‏ حافظٌ لكلِّ شيءٍ‏.‏

‏{‏أم يقولون‏}‏ بل أيقولون ‏{‏افتراه‏}‏ افترى القرآن وأتى به من قبل نفسه ‏{‏قل فأتوا بعشر سورٍ مثله‏}‏ مثل القرآن في البلاغة ‏{‏مُفترياتٍ‏}‏ بزعمكم ‏{‏وادعوا من استطعتم من دون الله‏}‏ إلى المعاونة على المعارضة ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أنَّه افتراه‏.‏

‏{‏فإن لم يستجيبوا لكم‏}‏ فإن لم يستجب لكم مَنْ تدعونهم إلى المعاونة، ولم يتهيَّأ لكم المعارضة فقد قامت عليكم الحجَّة ‏{‏فاعلموا أنما أُنْزِلَ بعلم الله‏}‏ أَيْ‏:‏ أُنزل والله عالمٌ بإنزاله، وعالمٌ أنَّه من عنده ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏}‏ استفهامٌ معناه الأمر، كقوله‏:‏ ‏{‏فهل أنتم منتهون‏.‏‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏17‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏من كان يريد الحياة الدنيا‏}‏ أَيْ‏:‏ مَنْ كان يريدها من الكفَّار، ولا يؤمن بالبعث ولا بالثَّواب والعقاب ‏{‏نوف إليهم أعمالهم‏}‏ جزاء أعمالهم في الدُّنيا‏.‏ يعني‏:‏ إنَّ مَنْ أتى من الكافرين فِعلاً حسناً من إطعام جائعٍ، وكسوة عارٍ، ونصرة مظلومٍ من المسلمين عُجِّل له ثواب ذلك في دنياه بالزِّيادة في ماله ‏{‏وهم فيها‏}‏ في الدُّنيا ‏{‏لا يُبخسون‏}‏ لا يُنقصون ثواب ما يستحقُّون، فإذا وردوا الآخرة وردوا على عاجل الحسرة؛ إذ لا حسنة لهم هناك، وهو قوله تعالى‏:‏

‏{‏أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاَّ النار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏أفمن كان‏}‏ يعني‏:‏ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ‏{‏على بيِّنة من ربه‏}‏ بيانٍ من ربِّه، وهو القرآن ‏{‏ويتلوه شاهد‏}‏ وهو جبريل عليه السَّلام ‏{‏منه‏}‏ من الله عزَّ وجلَّ‏.‏ يريد أنَّه يتَّبعه ويؤيِّده ويشهده ‏{‏ومن قبله‏}‏ ومن قبل القرآن ‏{‏كتاب موسى‏}‏ التَّوراة يتلوه أيضاً في التَّصديق، لأنّ موسى عليه السلام بَشّر به في التوراة، فالتوراة تتلو النبي صلى الله عليه وسلم في التصديق، وقوله‏:‏ ‏{‏إماماً ورحمة‏}‏ يعني أنَّ كتاب موسى كان إماماً لقومه ورحمة، وتقدير الآية‏:‏ أفمَنْ كان بهذه الصِّفة كمَنْ ليس يشهد بهذه الصِّفة‏؟‏ فترك ذكر المضادِّ له‏.‏ ‏{‏أولئك يؤمنون به‏}‏ يعني‏:‏ مَنْ آمن به مِنْ ‏[‏أهل‏]‏ الكتاب ‏{‏ومن يكفر به من الأحزاب‏}‏ أصنافِ الكفَّار ‏{‏فالنار موعده فلا تك في مِرْيةٍ منه‏}‏ من هذا الوعد ‏{‏إنَّه الحقُّ من ربك ولكنَّ أكثر النَّاس لا يؤمنون‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكَّة‏.‏

‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً‏}‏ فزعم أنَّ له ولداً وشريكاً ‏{‏أولئك يعرضون على ربهم‏}‏ يوم القيامة ‏{‏ويقول الأشهاد‏}‏ وهم الأنبياء والملائكة والمؤمنون ‏{‏هؤلاء الذين كَذَبوا على ربهم ألا لعنةُ اللَّهِ‏}‏ إبعاده من رحمته ‏{‏على الظالمين‏}‏ المشركين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏19‏)‏ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ‏(‏20‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏21‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏23‏)‏ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يصدون عن سبيل الله‏}‏ تقدَّم تفسير هذه الآية‏.‏

‏{‏أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض‏}‏ أَيْ‏:‏ سابقين فائتين، لم يعجزونا أن نعذِّبهم في الدُّنيا، ولكن أخَّرْنا عقوبتهم ‏{‏وما كان لهم من دون الله من أولياء‏}‏ يمنعوهم من عذاب الله ‏{‏يضاعف لهم العذاب‏}‏ لإِضلالهم الأتباع ‏{‏ما كانوا يستطيعون السمع‏}‏ لأني حُلْتُ بينهم وبين الإِيمان، فكانوا صُمَّاً عن الحقِّ فلا يسمعونه، وعمياً عنه فلا يبصرونه، ولا يهتدون‏.‏

‏{‏أولئك الذين خسروا أنفسهم‏}‏ بأن صاروا إلى النَّار ‏{‏وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ بطل افتراؤهم في الدُّنيا، فلم ينفعهم شيئاً‏.‏

‏{‏لا جرم‏}‏ حقَّاً ‏{‏أنهم في الآخرة هم الأخسرون‏}‏‏.‏

‏{‏إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأَخْبَتُوا إلى ربهم‏}‏ اطمأنُّوا وسكنوا، وقيل‏:‏ تابوا‏.‏

‏{‏مثل الفريقين‏}‏ فريق الكافرين وفريق المسلمين ‏{‏كالأعمى والأصم‏}‏ وهو الكافر ‏{‏والبصيرِ والسميع‏}‏ وهو المؤمن ‏{‏هو يستويان مثلاً‏}‏ أَيْ‏:‏ في المَثل‏.‏ أَيْ‏:‏ هل يتشابهان‏؟‏ ‏{‏أفلا تَذَكَّرون‏}‏ أفلا تتعظون يا أهل مكَّة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 31‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏25‏)‏ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏26‏)‏ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ‏(‏28‏)‏ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏29‏)‏ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏30‏)‏ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه‏}‏ فقال ‏[‏لهم‏]‏‏:‏ يا قومي ‏{‏إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلاَّ الله‏}‏ أَيْ‏:‏ أُنذركم لِتُوحِّدوا الله وتتركوا عبادة غيره ‏{‏إني أخاف عليكم‏}‏ بكفركم ‏{‏عذاب يومٍ أليم‏}‏ مؤلمٍ‏.‏

‏{‏فقال الملأ الذين كفروا من قومه‏}‏ وهم الأشراف والرُّؤساء‏:‏ ‏{‏ما نراك إلاَّ بشراً مثلنا‏}‏ إنساناً مثلنا لا فضل لك علينا ‏{‏وما نراك اتبعك إلاَّ الذين هم أراذلنا‏}‏ أخسَّاؤنا‏.‏ يعنون‏:‏ مَنْ لا شرفَ لهم ولا مال ‏{‏بادي الرأي‏}‏ اتَّبعوك في ظاهر الرَّأي، وباطنهم على خلاف ذلك ‏{‏وما نرى لكم‏}‏ يعنون لنوحٍ وقومه ‏{‏علينا من فضل‏}‏ وهذا تكذيبٌ منهم؛ لأنَّ الفضل كلَّه في النُّبوَّة ‏{‏بل نظنُّكم كاذبين‏}‏ ليس ما أتيتنا به من الله‏.‏

‏{‏قال يا قوم أرأيتم‏}‏ أَيْ‏:‏ أعلمتم ‏{‏إنْ كنت على بينة من ربي‏}‏ يقينٍ وبرهانٍ ‏{‏وآتاني رحمة من عنده‏}‏ نُبوَّةً ‏{‏فعميت عليكم‏}‏ فخفيت عليكم؛ لأنَّ الله تعالى سلبكم علمها، ومنعكم معرفتها لعنادكم الحقَّ ‏{‏أنلزمكموها‏}‏ أَنُلزمكم قبولها ونضطركم إلى معرفتها إذا كرهتم‏؟‏

‏{‏ويا قوم لا أسألكم عليه‏}‏ على تبليغ الرِّسالة ‏{‏مالاً إن أجري إلاَّ على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا‏}‏ سألوه طرد المؤمنين عنه ليؤمنوا به أنفةً من أن يكونوا معهم على سواء، فقال‏:‏ لا يجوز لي طردهم إذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بإيمانهم، ويأخذ لهم ممَّن ظلمهم وصغَّر شؤونهم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون‏}‏ أنَّ هؤلاء خيرٌ منكم؛ لإِيمانهم وكفركم‏.‏

‏{‏ويا قوم مَنْ ينصرني من الله‏}‏ مَنْ يمنعني من عذاب الله ‏{‏إن طردتهم‏}‏‏؟‏

‏{‏ولا أقول لكم عندي خزائن الله‏}‏ يعني‏:‏ مفاتيح، وهذا جوابٌ لقولهم‏:‏ اتَّبعوك في ظاهرِ ما نرى منهم، وهم في الباطن على خلافك، فقال مجيباً لهم‏:‏ ‏{‏ولا أقول لكم عندي خزائن الله‏}‏ غيوب الله ‏{‏ولا أعلم الغيب‏}‏ ما يغيب عني ممَّا يسترونه في نفوسهم، فسبيلي قبول ما ظهر منهم ‏{‏ولا أقول إني مَلَك‏}‏ جوابٌ لقولهم‏:‏ ‏{‏ما نراك إلاَّ بشراً مثلنا‏}‏ ‏{‏ولا أقول للذين تزدري‏}‏ تستصغر وتستحقر ‏{‏أعينكم‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين‏:‏ ‏{‏لن يؤتيهم الله خيراً الله أعلم بما في أنفسهم‏}‏ أَيْ‏:‏ بضمائرهم، وليس عليَّ أن أطَّلع على ما في نفوسهم ‏{‏إني إذاً لمن الظالمين‏}‏ إن طردتهم تكذيباً لهم بعد ما ظهر لي منهم الإِيمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏34‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏إن كان الله يريد أن يغويكم‏}‏ أَيْ‏:‏ يُضِلَّكم ويوقع الغيَّ في قلوبكم لما سبق لكم من الشَّقاء ‏{‏هو ربكم‏}‏ خالقكم وسيِّدكم، وله أن يتصرَّف فيكم كما شاء‏.‏

‏{‏أم يقولون‏}‏ بل أيقولون ‏{‏افتراه‏}‏ اختلف ما أتى به من الوحي ‏{‏قل إن افتريته فعليَّ إجرامي‏}‏ عقوبة جرمي ‏{‏وأنا بريء مما تجرمون‏}‏ من الكفر والتَّكذيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 44‏]‏

‏{‏وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏37‏)‏ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ‏(‏38‏)‏ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏39‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏40‏)‏ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏41‏)‏ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ‏(‏42‏)‏ قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ‏(‏43‏)‏ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏فلا تبتئس‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تحزن ولا تغتم‏.‏

‏{‏واصنع الفلك بأعيننا‏}‏ بمرأى منا، وتأويله‏:‏ بحفظنا إيَّاك حفظ مَنْ يراك، ويملك دفع السُّوء عنك ‏{‏ووحينا‏}‏ وذلك أنَّه لم يعلم صنعة الفلك حتى أوحى الله إليه كيف يصنعها ‏{‏ولا تخاطبني‏}‏ لا تراجعني ولا تحاورني ‏{‏في الذين ظلموا‏}‏ في إمهالهم وتأخير العذاب عنهم، وقوله‏:‏

‏{‏إن تسخروا منا‏}‏ أَيْ‏:‏ لما يرون من صنعه الفلك ‏{‏فإنا نسخر منكم‏}‏ ونعجب من غفلتكم عمَّا قد أظلَّكم من العذاب‏.‏

‏{‏فسوف تعلمون مَنْ يأتيه عذابٌ يخزيه‏}‏ أَيْ‏:‏ فسوف تعلمون مَنْ أخسر عاقبةً‏.‏

‏{‏حتى إذا جاء أمرنا‏}‏ بعذابهم وهلاكهم ‏{‏وفار التنور‏}‏ بالماء، يعني‏:‏ تنُّور الخابز، وكان ذلك علامةً لنوح عليه السَّلام، فركب السَّفينة ‏{‏قلنا احمل فيها‏}‏ في الفلك ‏{‏من كلّ زوجين‏}‏ من كلِّ شيءٍ له زوج ‏{‏اثنين‏}‏ ذكراً وأنثى ‏{‏وأهلك‏}‏ واحمل أهلك يعني‏:‏ ولده وعياله ‏{‏إلاَّ مَنْ سبق عليه القول‏}‏ يعني‏:‏ مَنْ كان في علم الله أنَّه يغرق بكفره، وهو امرأته واغلة، وابنه كنعان، ‏{‏ومَنْ آمن‏}‏ واحمل مَنْ صدَّقك ‏{‏وما آمن معه إلاَّ قليل‏}‏ ثمانون إنساناً‏.‏

‏{‏وقال‏}‏ نوحٌ لقومه الذين أُمر بحملهم‏:‏ ‏{‏اركبوا‏}‏ يعني‏:‏ الماء ‏{‏فيها‏}‏ في الفلك ‏{‏بسم الله مجريها ومرساها‏}‏ يريد‏:‏ تجري باسم الله، وترسي باسم الله، فكان إذا أراد أن تجري السفينة قال‏:‏ بسم الله، فجرت، وإذا أراد أن ترسي قال‏:‏ بسم الله، فَرَسَتْ، أَيْ‏:‏ ثبتت ‏{‏إن ربي لغفور‏}‏ لأصحاب السَّفينة ‏{‏رحيم‏}‏ بهم‏.‏

‏{‏وهي تجري بهم في موج‏}‏ جمع موجةٍ، وهي ما يرتفع من الماء ‏{‏كالجبال‏}‏ في العِظَم ‏{‏ونادى نوح ابنه‏}‏ كنعان، وكان كافراً ‏{‏وكان في معزل‏}‏ من السَّفينة، أَيْ‏:‏ في ناحيةٍ بعيدة عنها‏.‏

‏{‏قال سآوي إلى جبل‏}‏ أنضمُّ إلى جبلٍ ‏{‏يعصمني‏}‏ يمنعني ‏{‏من الماء‏}‏ فلا أغرق، ‏{‏قال‏}‏ نوح‏:‏ ‏{‏لا عاصم اليوم من أمر الله‏}‏ لا مانع اليوم من عذاب الله ‏{‏إلاَّ مَنْ رحم‏}‏ لكن مَنْ رحم الله فإنَّه معصوم ‏{‏وحال بينهما‏}‏ بين ابن نوحٍ وبين الجبل ‏{‏الموج‏}‏ ما ارتفع من الماء‏.‏

‏{‏وقيل يا أرض ابلعي ماءك‏}‏ اشربي ماءك ‏{‏ويا سماء أقلعي‏}‏ أمسكي عن إنزال الماء ‏{‏وغيض الماء‏}‏ نقص ‏{‏وقضي الأمر‏}‏ أُهلك قوم نوحٍ، وفُرِغ من ذلك ‏{‏واستوت‏}‏ السَّفينة ‏{‏على الجودي‏}‏ وهو جبل بالجزيرة ‏{‏وقيل‏:‏ بعداً‏}‏ من رحمة الله ‏{‏للقوم الظالمين‏}‏ المتَّخذين من دون الله آلهاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏47‏)‏ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏ونادى نوح ربَّه فقال ربِّ إنَّ ابني‏}‏ كنعان ‏{‏من أهلي وإنَّ وعدك الحق‏}‏ وعدتني أن تنجيني وأهلي، أَيْ‏:‏ فأنجه من الغرق ‏{‏وأنت أحكم الحاكمين‏}‏ أعدل العادلين‏.‏

‏{‏قال يا نوح إنه ليس من أهلك‏}‏ الذين وعدتك أن أُنجيهم ‏{‏إنه عمل غير صالح‏}‏ أيْ‏:‏ سؤالك إيَّاي أن أنجي كافراً عملٌ غير صالح، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ إنَّ ابنك ذو عملٍ غير صالحٍ ‏{‏فلا تسألني ما ليس لك به علم‏}‏ وذلك أنَّ نوحاً لم يعلم أنَّ سؤاله ربَّه نجاةَ ولدِه محظورٌ عليه مع إصراره على الكفر، حتى أعلمه الله سبحانه ذلك، والمعنى‏:‏ فلا تسألني ما ليس لك به علمٌ بجواز مسألته ‏{‏إني أعظك‏}‏ أنهاك ‏{‏أن تكون من الجاهلين‏}‏ من الآثمين، فاعتذر نوحٌ عليه السَّلام لمَّا أعلمه الله سبحانه أنَّه لا يجوز له أن يسأل ذلك وقال‏:‏

‏{‏ربِّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلاَّ تغفر لي‏}‏ جهلي ‏{‏وترحمني أكن من الخاسرين‏}‏‏.‏

‏{‏قيل يا نوح اهبط‏}‏ من السَّفينة إلى الأرض ‏{‏بسلامٍ‏}‏ بسلامةٍ‏.‏ وقيل‏:‏ بتحيَّةٍ ‏{‏منا وبركات عليك‏}‏ وذلك أنَّه صار أبا البشر؛ لأنَّ جميع مَن بقي كانوا من نسله ‏{‏وعلى أمم ممن معك‏}‏ أَيْ‏:‏ من أولادهم وذراريهم، وهم المؤمنون وأهل السَّعادة إلى يوم القيامة ‏{‏وأمم سنمتعهم‏}‏ في الدُّنيا‏.‏ يعني‏:‏ الأمم الكافرة من ذريَّته لى يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏49‏)‏ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏تلك‏}‏ القصَّة التي أخبرتك بها ‏{‏من أنباء الغيب‏}‏ أخبار ما غاب عنك وعن قومك ‏{‏فاصبر‏}‏ كما صبر نوح على أذى قومه ‏{‏إنَّ العاقبة للمتقين‏}‏ آخر الأمر بالظَّفر لك ولقومك، كما كان ‏[‏لمؤمني‏]‏ قوم نوحٍ، وقوله‏:‏

‏{‏إن أنتم إلاَّ مفترون‏}‏ ما أنتم إلاَّ كاذبون في إشراككم الأوثان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 55‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏يرسل السماء عليكم مدراراً‏}‏ كثير الدَّرِّ‏.‏ يعني‏:‏ المطر ‏{‏ويزدكم قوة إلى قوتكم‏}‏ يعني‏:‏ المال والولد، وكان الله سبحانه قد حبس عنهم المطر ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم، فقال لهم هود‏:‏ إن آمنتم أحيا الله سبحانه بلادكم، ورزقكم المال والولد‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ مُنكرين لنبوَّته‏:‏ ‏{‏يا هود ما جئتنا ببينة‏}‏ بحجَّةٍ واضحةٍ، وقوله‏:‏ ‏{‏اعتراك‏}‏ أصابك ومسَّك ‏{‏بعض آلهتنا بسوء‏}‏ بجنونٍ فأفسد عقلك، فالذي يظهر مِنْ عيبها لما لحق عقلك من التَّغيير ‏{‏قال‏}‏ نبيُّ الله عليه السَّلام عند ذلك‏:‏ ‏{‏إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون‏}‏ أَيْ‏:‏ إن كانت عندكم الأصنام أنَّها عاقبتني لطعني عليها، فإني أزيد الآن في الطَّعن عليها، وقوله‏:‏

‏{‏فيكدوني جميعاً‏}‏ احتالوا أنتم وأوثانكم في عداوتي ‏{‏ثم لا تنظرون‏}‏ لا تُؤجِّلون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 63‏]‏

‏{‏إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏56‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏57‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏59‏)‏ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ‏(‏60‏)‏ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ‏(‏61‏)‏ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏62‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏ما من دابة إلاَّ هو آخذٌ بناصيتها‏}‏ أَيْ‏:‏ هي في قبضته، وتنالها بما شاء قدرته ‏{‏إنَّ ربي على صراط مستقيم‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّ الذي بعثني الله به دينٌ مستقيمٌ‏.‏

‏{‏فإن تولوا‏}‏ تتولَّوا، بمعنى‏:‏ تُعرضوا عمَّا دعوتكم إليه من الإِيمان ‏{‏فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم‏}‏ فقد ثبتت الحُجَّة عليكم بإبلاغي ‏{‏ويستخلف ربي قوماً غيركم‏}‏ أَيْ‏:‏ ويخلف بعدكم مَنْ هو أطوعُ له منكم ‏{‏ولا تضرونه‏}‏ بإعراضكم ‏{‏شيئاً‏}‏ إنَّما تضرُّون أنفسكم ‏{‏إنَّ ربي على كل شيء‏}‏ من أعمال العباد ‏{‏حفيظ‏}‏ حتى يجازيهم عليها‏.‏

‏{‏ولما جاء أمرنا‏}‏ بهلاك عادٍ ‏{‏نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمةٍ منا‏}‏ حيث هديناهم إلى الإِيمان، وعصمناهم من الكفر ‏{‏ونجيناهم من عذاب غليظ‏}‏ يعني‏:‏ ما عُذِّب به الذين كفروا‏.‏

‏{‏وتلك عاد‏}‏ يعني‏:‏ القبيلة ‏{‏جحدوا بآيات ربهم‏}‏ كذَّبوها فلم يُقِرّوا بها ‏{‏وعصوا رسله‏}‏ يعني‏:‏ هوداً عليه السَّلام؛ لأنَّ مَنْ كذَّب رسولاً واحداً فقد كفر بجميع الرُّسل ‏{‏واتبعوا أمر كل جبار عنيد‏}‏ واتَّبع السَّفلةُ الرُّؤساءَ‏.‏ والعنيد‏:‏ المعارضُ لك بالخلاف‏.‏

‏{‏وأُتْبِِعُوا في هذه الدنيا لعنةً‏}‏ أُردفوا لعنةً تلحقهم وتنصرف معهم ‏{‏ويوم القيامة‏}‏ أَيْ‏:‏ وفي يوم القيامة، كما قال‏:‏ ‏{‏لعنوا في الدنيا والآخرة‏}‏ ‏{‏ألاَ إنَّ عاداً كفروا ربهم‏}‏ قيل‏:‏ بربِّهم‏.‏ وقيل‏:‏ كفروا نعمة ربِّهم ‏{‏ألا بعداً لعاد‏}‏ يريد‏:‏ بعدوا من رحمة الله تعالى، وقوله‏:‏

‏{‏وهو أنشأكم‏}‏ أَيْ‏:‏ خلقكم ‏{‏من الأرض‏}‏ من آدم، وآدم خُلق من تراب الأرض ‏{‏واستعمركم فيها‏}‏ جعلكم عمَّاراً لها‏.‏

‏{‏قالوا يا صالح قد كنتَ فينا مَرْجُوّاً قبل هذا‏}‏ وذلك أنَّ صالحاً عليه السَّلام كان يعدل عن دينهم، ويشنأ أصنامهم، وكانوا يرجون رجوعه إلى دين عشيرته، فلمَّا أظهر دعاءهم إلى الله تعالى زعموا أنَّ رجاءهم انقطع منه، وقوله ‏{‏مريب‏}‏ موقعٍ في الرِّيبة‏.‏

‏{‏قال يا قوم أرأيتم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ يقول‏:‏ أعلمتم مَنْ ينصرني من الله، أَيْ‏:‏ مَنْ يمنعني من عذاب الله إن عصيته بعد بيِّنةٍ من ربِّي ونعمةٍ ‏{‏فما تزيدونني غير تخسير‏}‏ أَيْ‏:‏ ما تزيدونني باحتجاجكم بعبادة آبائكم الأصنام، ‏[‏وقولكم‏]‏‏:‏ ‏{‏أتنهانا أن نعبدَ ما يعبدُ آباؤُنا‏}‏ إلاَّ بنسبتي إيَّاكم إلى الخسارة، أَيْ‏:‏ كلَّما اعتذرتم بشيءٍ زادكم تخسيراً‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الآية‏:‏ ما تزيدونني غير تخسيرٍ ‏[‏لي‏]‏ إن كنتم أنصاري، ومعنى التَّخسير‏:‏ التَّضليل والإِبعاد من الخير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 67‏]‏

‏{‏فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ‏(‏65‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏66‏)‏ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏تمتعوا في داركم‏}‏ أَيْ‏:‏ عيشوا في بلادكم ‏{‏ثلاثة أيام ذلك وعدٌ‏}‏ للعذاب ‏{‏غير مكذوب‏}‏ ‏[‏غير كذبٍ‏]‏، وقوله‏:‏

‏{‏ومن خزي يومئذٍ‏}‏ أَيْ‏:‏ نجَّيناهم من العذاب الذي أهلك قومه، ومن الخزي الذي لزمهم، وبقي العارُ فيهم مأثوراً عنهم، فالواوُ في ‏{‏ومِنْ‏}‏ نسقٌ على محذوف، وهو العذاب‏.‏

‏{‏وأخذ الذين ظلموا الصيحة‏}‏ لمَّا أصبحوا اليوم الرَّابع أتتهم صيحةٌ من السَّماء فيها صوت كلِّ صاعقةٍ، وصوت كلِّ شيء في الأرض، فتقطَّعت قلوبهم في صدورهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 70‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد جاءت رسلنا‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة الذين أتوا ‏{‏إبراهيم‏}‏ عليه السَّلام على صورة الأضياف ‏{‏بالبشرى‏}‏ بالبشارة بالولد ‏{‏قالوا سلاماً‏}‏ أَيْ‏:‏ سلِّموا سلاماً ‏{‏قال سلامٌ‏}‏ أَيْ‏:‏ عليكم سلامٌ ‏{‏فما لبث أن جاء بعجل حنيذٍ‏}‏ مشويٍّ‏.‏

‏{‏فلما رأى أيديهم لا تصل إليه‏}‏ إلى العجل ‏{‏نكرهم‏}‏ أنكرهم ‏{‏وأوجس منهم خيفة‏}‏ أضمر منهم خوفاً، ولم يأمن أن يكونوا جاؤوا لبلاءٍ لمَّا لم يتحرَّموا بطعامه، فلمَّا رأوا علامة الخوف في وجهه ‏{‏قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط‏}‏ بالعذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 74‏]‏

‏{‏وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ‏(‏71‏)‏ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ‏(‏73‏)‏ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏وامرأته‏}‏ سارة ‏{‏قائمة‏}‏ وراء السِّتر تتسمَّع إلى الرُّسل ‏{‏فضحكت‏}‏ سروراً بالأمن حيث قالوا‏:‏ ‏{‏إنا أُرسلنا إلى قوم لوط‏}‏، وذلك أنَّها خافت كما خاف إبراهيم عليه السَّلام، فقيل لها‏:‏ يا أيتها الضَّاحكة ستلدين غلاماً، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق‏}‏ أَيْ‏:‏ بعده ‏{‏يعقوب‏}‏ ‏[‏عليهما السَّلام‏]‏‏.‏ وذلك أنَّهم بشَّروها بأنَّها تعيش إلى أن ترى ولد ولدها‏.‏

‏{‏قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز‏}‏ وكانت بنت تسع وتسعين سنةً ‏{‏وهذا بعلي شيخاً‏}‏ وكان ابن مائة سنة ‏[‏واثنتي عشرة سنة‏]‏ ‏{‏إنَّ هذا‏}‏ الذي ‏[‏تذكرون‏]‏ من ولادتي على كبر سنِّي وسنِّ بعلي ‏{‏لشيء عجيب‏}‏ معجب‏.‏

‏{‏قالوا أتعجبين من أمر الله‏}‏ قضاء الله وقدره ‏{‏رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت‏}‏ يعني‏:‏ بيت إبراهيم عليه السَّلام، فكان من تلك البركات أنَّ الأسباط، وجميع الأنبياء كانوا من إبراهيم وسارة، وكان هذا دعاءً من الملائكة لهم، وقوله‏:‏ ‏{‏إنّه حميدٌ‏}‏ أَيْ‏:‏ محمودٌ في أفعاله ‏{‏مجيد‏}‏ كريمٌ‏.‏

‏{‏فلما ذهب عن إبراهيم الروع‏}‏ الفزع ‏{‏وجاءته البشرى‏}‏ بالولد ‏{‏يجادلنا‏}‏ أَيْ‏:‏ أقبل وأخذ يجادل رسلنا ‏{‏في قوم لوط‏}‏ وذلك أنَّهم لما قالوا لإِبراهيم عليه السَّلام‏:‏ ‏{‏إنَّا مهلكو أهلِ هذه القرية‏}‏ قال لهم‏:‏ أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فأربعون‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، فما زال ينقص حتى قال‏:‏ فواحدٌ‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، فاحتجَّ عليهم بلوط، و‏{‏قال‏:‏ إنَّ فيها لوطاً قالوا‏:‏ نحن أعلم‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فهذا معنى جداله، وعند ذلك قالت الملائكة‏:‏

‏{‏يا إبراهيم أعرض عن هذا‏}‏ الجدال، وخرجوا من عنده فأتوا قرية قوم لوطٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 83‏]‏

‏{‏يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ‏(‏76‏)‏ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ‏(‏77‏)‏ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ‏(‏78‏)‏ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ‏(‏79‏)‏ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ‏(‏80‏)‏ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ‏(‏81‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ‏(‏82‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏يا إبراهيم أعرض عن هذا‏}‏ الجدال، وخرجوا من عنده فأتوا قرية قوم لوطٍ، وذلك قوله‏:‏

‏{‏ولما جاءت رسلنا لوطاً سِيءَ بهم‏}‏ حزن بمجيئهم؛ لأنَّه رآهم في أحسن صورةٍ، فخاف عليهم قومه، وعلم أنَّه يحتاج إلى المدافعة عنهم، وكانوا قد أتوه في صورة الأضياف ‏{‏وضاق بهم ذرعاً‏}‏ أَيْ‏:‏ صدراً ‏{‏وقال هذا يوم عصيب‏}‏ شديدٌ‏.‏ ولمَّا علم قومه بمجيء قومٍ حسانِ الوجوه أضيافاً للوط قصدوا داره، وذلك، قوله‏:‏

‏{‏وجاء قومه يهرعون إليه‏}‏ أَيْ‏:‏ يُسرعون إليه ‏{‏ومن قبل‏}‏ أَيْ‏:‏ ومِنْ قبل مجيئهم إلى لوطٍ ‏{‏كانوا يعملون السيئات‏}‏ يعني‏:‏ فعلهم المنكر ‏{‏قال يا قومِ هؤلاء بناتي‏}‏ أُزوِّجكموهنَّ ف ‏{‏هنَّ أَطْهَرُ لكم‏}‏ من نكاح الرِّجال‏.‏ أراد أن يقي أضيافه ببناته ‏{‏فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي‏}‏ لا تفضحوني فيهم؛ لأنَّهم إذا هجموا إلى أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة ‏{‏أليس منكم رجل رشيد‏}‏ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر‏.‏

‏{‏قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق‏}‏ لَسْنَ لنا بأزواجٍ فنستحقهنَّ ‏{‏وإنك لتعلم ما نريد‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّا نريد الرِّجال لا النِّساء‏.‏

‏{‏قال لو أنَّ لي بكم قوَّة‏}‏ لو أنَّ معي جماعةً أقوى بها عليكم ‏{‏أو آوي‏}‏ أنضمُّ ‏{‏إلى ركن شديد‏}‏ عشيرةٍ تمنعني وتنصرني لَحُلْتُ بينكم وبين المعصية، فلمَّا رأت الملائكة ذلك،

‏{‏قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك‏}‏ بسوءٍ فإنَّا نحولُ بينهم وبين ذلك ‏{‏فأسرِ بأهلك بقطع الليل‏}‏ في ظلمة اللَّيل ‏{‏ولا يلتفت منكم أحد‏}‏ لا ينظر أحدٌ إلى ورائه إذا خرج من قريته ‏{‏إلاَّ امرأتك‏}‏ فلا تسرِ بها، وخلِّفها مع قومها؛ فإنَّ هواها إليهم و‏{‏إنَّه مصيبها ما أصابهم‏}‏ من العذاب ‏{‏إنَّ موعدهم الصبح‏}‏ للعذاب، فقال لوط‏:‏ أريد أعجلَ من ذلك، بل السَّاعةَ يا جبريل، فقالوا له‏:‏ ‏{‏أليس الصبح بقريب‏}‏‏.‏

‏{‏فلما جاء أمرنا‏}‏ عذابنا ‏{‏جعلنا عاليها سافلها‏}‏ وذلك أنَّ جبريل عليه السَّلام أدخل جناحه تحتها حتى قلعها، وصعد بها إلى السَّماء، ثمَّ قلبها إلى الأرض ‏{‏وأمطرنا عليها حجارة‏}‏ قبلَ قلبها إلى الأرض ‏{‏من سجيل‏}‏ من طينٍ مطبوخٍ، طُبخ حتى صار كالآجر، فهو سنك كل بالفارسية، فَعُرِّب، ‏{‏منضود‏}‏ يتلو بعضه بعضاً‏.‏

‏{‏مسوَّمة‏}‏ مُعلَّمةً بعلامةٍ تُعرف بها أنَّها ليست من حجارة أهل الدُّنيا ‏{‏عند ربك‏}‏ في خزائنه التي لا يُتصرَّف في شيءٍ منها إلاَّ بإرادته ‏{‏وما هي من الظالمين ببعيد‏}‏ يعني‏:‏ كفَّار قريش، يُرهبهم بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 90‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ‏(‏84‏)‏ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏85‏)‏ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏86‏)‏ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ‏(‏87‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏88‏)‏ وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ‏(‏89‏)‏ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏وإلى مدين‏}‏ ذكرنا تفسير هذه الآية في سورة الأعراف، وقوله‏:‏ ‏{‏إني أراكم بخير‏}‏ يعني‏:‏ النِّعمة والخصب، يقول‏:‏ أيُّ حاجةٍ بكم إلى التَّطفيف مع ما أنعم الله سبحانه به عليكم من المال ورخص السِّعر ‏{‏وإني أخاف عليكم عذاب يومٍ محيط‏}‏ يُوعدهم بعذابٍ يُحيط بهم فلا يفلت منهم أحدٌ‏.‏

‏{‏ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط‏}‏ أَتِمّوهما بالعدل‏.‏

‏{‏بقية الله‏}‏ أَيْ‏:‏ ما أبقى الله لكم بعد إيفاء الكيل والوزن ‏{‏خير لكم‏}‏ من البخس، يعني‏:‏ من تعجيل النَّفع به ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ ‏[‏مُصدِّقين‏]‏ في نعمه‏.‏

شَرَطَ الإِيمانَ لأنَّهم إنَّما يعرفون صحَّة ما يقول إذا كانوا مؤمنين ‏{‏وما أنا عليكم بحفيظ‏}‏ أَيْ‏:‏ لم أُؤمر بقتالكم وإكراهكم على الإِيمان‏.‏

‏{‏قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا‏}‏ يريدون‏:‏ دينُك يأمرك، أَيْ‏:‏ أفي دينك الأمر بذا‏؟‏ ‏{‏أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء‏}‏ من البخس والظُّلم، ونقص المكيال والميزان ‏{‏إنك لأنت الحليم الرشيد‏}‏ أيْ‏:‏ السَّفيه الجاهل، وقالوا‏:‏ الحليم الرَّشيد على طريق الاستهزاء‏.‏

‏{‏قال يا قوم أرأيتم‏}‏ أعلمتم ‏{‏إن كنت على بينة من ربي‏}‏ بيانٍ وحجَّةٍ من ربي ‏{‏ورزقني منه رزقاً حسناً‏}‏ حلالاً، وذلك أنَّه كان كثير المال، وجواب ‏"‏ إنْ ‏"‏ محذوف على معنى‏:‏ إنْ كنت على بيِّنةٍ من ربي ورزقني المال الحلال أتَّبع الضَّلال فأبخس وأُطفف‏؟‏ يريد‏:‏ إنَّ الله تعالى قد أغناه بالمال الحلال، ‏{‏وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه‏}‏ أَيْ‏:‏ لست أنهاكم عن شيءٍ وأدخل فيه، وإنَّما أختار لكم ما أختار لنفسي ‏{‏إن أريد‏}‏ ما أريد ‏{‏إلاَّ الإصلاح‏}‏ فيما بيني وبينكم بأن تعبدوا الله وحده، وأَنْ تفعلوا ما يفعل مَنْ يخاف الله ‏{‏ما استطعت‏}‏ أَيْ‏:‏ بقدر طاقتي، وطاقة الإِبلاغ والإِنذار، ثمَّ أخبر أنَّه لا يقدر هو ولا غيره على الطَّاعة إلاَّ بتوفيق الله سبحانه، فقال‏:‏ ‏{‏وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب‏}‏ أرجع في المعاد‏.‏

‏{‏ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي‏}‏ لا يكسبنَّكم خلافي وعداوتي ‏{‏أن يصيبكم‏}‏ عذاب العاجلة ‏{‏مثل ما أصاب قوم نوحٍ‏}‏ من الغرق ‏{‏أو قوم هود‏}‏ من الرِّيح العقيم ‏{‏أو قوم صالح‏}‏ من الرَّجفة والصِّيحة ‏{‏وما قوم لوط منكم ببعيد‏}‏ في الزَّمان الذي بينكم وبينهم وكان إهلاكهم أقربَ الإِهلاكات التي عرفوها‏.‏

‏{‏واستغفروا ربكم‏}‏ اطلبوا منه المغفرة ‏{‏ثمَّ توبوا إليه‏}‏ توصَّلوا إليه بالتَّوبة ‏{‏إنَّ ربي رحيم‏}‏ بأوليائه ‏{‏ودودٌ‏}‏ محبٌّ لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 95‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ‏(‏91‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏92‏)‏ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ‏(‏93‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏94‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏قالوا يا شعيب ما نفقه‏}‏ ‏[‏ما نفهم‏]‏ ‏{‏كثيراً مما تقول‏}‏ أَيْ‏:‏ صحَّته‏.‏ يعنون‏:‏ ما يذكر من التَّوحيد والبعث والنُّشور ‏{‏وإنا لنراك فينا ضعيفاً‏}‏ لأنَّه كان أعمى ‏{‏ولولا رهطك‏}‏ عشيرتك ‏{‏لرجمناك‏}‏ قتلناك ‏{‏وما أنت علينا بعزيز‏}‏ بمنيعٍ‏.‏

‏{‏قال يا قوم أرهطي أعزُّ عليكم من الله‏}‏ يريد‏:‏ أمنع عليكم من الله، كأنَّه يقول‏:‏ حفظكم إيَّاي في الله أولى منه في رهطي ‏{‏واتَّخذتموه وراءكم ظهرياً‏}‏ ألقيتموه خلف ظهوركم، وامتنعتم من قتلي مخافة قومي، والله أعزُّ وأكبر من جميع خلقه ‏{‏إنَّ ربي بما تعملون محيط‏}‏ خبيرٌ بأعمال العباد حتى يجازيهم بها، ثمَّ هدَّدهم فقال‏:‏

‏{‏ويا قوم اعملوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ يقول‏:‏ اعملوا على ما أنتم عليه ‏{‏إني عاملٌ‏}‏ على ما أنا عليه من طاعة الله، وسترون منزلتكم من منزلتي، وهو قوله‏:‏ ‏{‏سوف تعلمون مَنْ يأتيه عذاب يخزيه‏}‏ يفضحه ويذله ‏{‏ومَنْ هو كاذب‏}‏ منَّا ‏{‏وارتقبوا إني معكم رقيب‏}‏ ارتقبوا العذاب من الله سبحانه، إنِّي مرتقب من الله سبحانه الرَّحمة، وقوله‏:‏

‏{‏وأخذت الذين ظلموا الصيحة‏}‏ صاح بهم جبريل صيحةً فماتوا في أمكنتهم‏.‏

‏{‏ألا بعداً لمدين‏}‏ أَيْ‏:‏ قد بعدوا من رحمة الله سبحانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 102‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏96‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ‏(‏97‏)‏ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ‏(‏98‏)‏ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ‏(‏99‏)‏ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ‏(‏100‏)‏ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ‏(‏101‏)‏ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد أرسلنا موسى بآياتنا‏}‏ يريد‏:‏ التَّوراة وما أنزل الله فيها من الأحكام ‏{‏وسلطان مبين‏}‏ وحجَّةٍ بيِّنةٍ، وهي العصا‏.‏

‏{‏وما أمر فرعون برشيد‏}‏ بمرشدٍ إلى خيرٍ‏.‏

‏{‏يقدم قومه‏}‏ يتقدَّمهم إلى النَّار، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فأوردهم النار‏}‏ أدخلهم النار ‏{‏وبئس الورد المورود‏}‏ المدخل المدخول‏.‏

‏{‏وأُتْبِعُوا في هذه‏}‏ الدُّنيا ‏{‏لعنة‏}‏ يعني‏:‏ الغرق ‏{‏ويوم القيامة‏}‏ يعني‏:‏ ولعنة يوم القيامة، وهو عذاب جهنَّم ‏{‏بئس الرفد المرفود‏}‏ يعني‏:‏ اللَّعنة بعد اللَّعنة، وقوله‏:‏

‏{‏منها قائمٌ وحصيد‏}‏ أَيْ‏:‏ من القرى التي أُهلكت قائمٌ بقيت حيطانه، وحصيدٌ مخسوفٌ به قد مُحي أثره‏.‏

‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ بالعذاب والإِهلاك ‏{‏ولكن ظلموا أنفسهم‏}‏ بالكفر والمعصية ‏{‏فما أغنت عنهم‏}‏ ما نفعتهم وما دفعت عنهم ‏{‏آلهتهم التي يدعون‏}‏ يعبدون ‏{‏من دون الله‏}‏ سوى الله ‏{‏وما زادوهم‏}‏ وما زادتهم عبادتها ‏{‏غير تتبيب‏}‏ بلاءٍ وهلاكٍ وخسارةٍ‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ وكما ذكرنا من أهلاك الأمم ‏{‏أخذ ربك‏}‏ بالعقوبة ‏{‏إذا أخذ القرى وهي ظالمة‏}‏ يعني‏:‏ أهلها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 109‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ‏(‏103‏)‏ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ‏(‏104‏)‏ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ‏(‏105‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ‏(‏106‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏107‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ‏(‏108‏)‏ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ في ذلك‏}‏ يعني‏:‏ ما ذكر من عذاب الأمم الخالية ‏{‏لآية‏}‏ لعبرةً ‏{‏لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس‏}‏ لأنَّ الخلق كلهم يحشرون ويجمعون لذلك اليوم ‏{‏وذلك يوم مشهود‏}‏ يشهده البرُّ والفاجر‏.‏

‏{‏وما نؤخره‏}‏ وما نؤخِّر ذلك اليوم فلا نُقيمه عليكم ‏{‏إلاَّ لأجلٍ معدود‏}‏ لوقتٍ معلومٍ، ولا يعلمه أحدٌ غير الله سبحانه‏.‏

‏{‏يوم يأتِ‏}‏ ذلك اليوم ‏{‏لا تكلم نفس إلا بإذنه، فمنهم شقيٌّ وسعيد‏}‏ فمن الأنفس في ذلك اليوم شقيٌّ وسعيدٌ‏.‏

‏{‏فأمَّا الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق‏}‏ وهما من أصوات المكروبين والمحزونين، والزَّفير مثل أوَّل نهيق الحمار، والشَّهيق آخره إذا ردَّده في الجوف‏.‏

‏{‏خالدين فيها ما دامت السموات والأرض‏}‏ أبداً، وهذا من ألفاظ التأبيد ‏{‏إلاَّ ما شاء ربك‏}‏ أن يُخرجهم، ولكنَّه لا يشاء ذلك، والمعنى‏:‏ لو شاء أن لا يخلِّدهم لقدر‏.‏ وقيل‏:‏ إلاَّ ما شاء ربك‏.‏ يعني‏:‏ إلاَّ مقدار مكثهم في الدُّنيا والبرزخ والوقوف للحساب، ثمَّ يصيرون إلى النَّار أبداً، وقوله‏:‏

‏{‏عطاء غير مجذوذ‏}‏ أَيْ‏:‏ مقطوعٍ‏.‏

‏{‏فلا تك‏}‏ يا محمَّدُ ‏{‏في مرية‏}‏ شكٍّ ‏{‏ممَّا يعبد هؤلاء‏}‏ أيْ‏:‏ مِن حال ما يعبدون في أنَّها لا تضرُّ ولا تنفع ‏{‏ما يعبدون إلاَّ كما آباؤهم من قبل‏}‏ أَيْ‏:‏ كعبادة آبائهم، يريد‏:‏ إنَّهم على طريق التَّقليد يعبدون الأوثان كعبادة آبائهم ‏{‏وإنا لموفوهم نصيبهم‏}‏ من العذاب ‏{‏غير منقوص‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 113‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏110‏)‏ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏111‏)‏ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏112‏)‏ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه‏}‏ هذه الآية تعزيةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتسليةٌ له باختلاف قوم موسى في كتابه ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك‏}‏ بتأخير العذاب عن قومك ‏{‏لَقُضي بينهم‏}‏ لَعُجِّل عقابهم، وفُرِغَ من ذلك ‏{‏وإنهم لفي شك منه‏}‏ من القرآن ‏{‏مريب‏}‏ موقعٍ للرِّيبة‏.‏

‏{‏وإنَّ كلاًّ‏}‏ من البرِّ والفاجر، والمؤمن والكافر ‏{‏لما‏}‏ يعني‏:‏ لمَنْ، في قول الفرَّاء، وفي قول البصريين ‏"‏ ما ‏"‏ زائدة، والمعنى‏:‏ وإنَّ كلاً ‏{‏ليوفينهم ربك أعمالهم‏}‏ أَيْ‏:‏ ليتمنَّ لهم جزاء أعمالهم‏.‏

‏{‏فاستقم‏}‏ على العمل بأمر ربك والدُّعاء إليه ‏{‏كما أمرت‏}‏ في القرآن ‏{‏ومن تاب معك‏}‏ يعني‏:‏ أصحابه، أَيْ‏:‏ وليستقيموا هم أيضاً على ما أُمروا به ‏{‏ولا تَطْغَوا‏}‏ تواضعوا لله ولا تتجبَّروا على أحدٍ ‏{‏إنه بما تعملون بصير‏}‏ لا تخفى عليه أعمال بني آدم‏.‏

‏{‏ولا تركنوا إلى الذين ظلموا‏}‏ لا تُداهنوهم ولا ترضوا بأعمالهم، يعني‏:‏ الكفَّار ‏{‏فتمسكم النار‏}‏ فيصيبكم لفحها ‏{‏وما لكم من دون الله من أولياء‏}‏ من مانع يمنعكم من عذاب الله ‏{‏ثم لا تنصرون‏}‏ استئنافٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 118‏]‏

‏{‏وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ‏(‏114‏)‏ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏115‏)‏ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏116‏)‏ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ‏(‏117‏)‏ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار‏}‏ بالصبح والمغرب ‏{‏وزلفاً من الليل‏}‏ صلاة العشاء قرب أوَّل الليل، والزُّلف‏:‏ أوَّل ساعات اللَّيل‏.‏ وقيل‏:‏ صلاة طرفي النَّهار‏:‏ الفجر والظُّهر والعصر، وأمَّا المغرب والعشاء فإنَّهما من صلاة زلف اللَّيل‏.‏ ‏{‏إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏ إنَّ الصَّلوات الخمس تكفِّر ما بينها من الذنوب إذا اجتنبت الكبائر ‏{‏ذلك ذكرى‏}‏ أَيْ‏:‏ هذه موعظةٌ ‏{‏للذاكرين‏}‏‏.‏

‏{‏واصبر‏}‏ على الصَّلاة ‏{‏فإنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين‏}‏ يعني‏:‏ المُصلِّين‏.‏

‏{‏فلولا كان من القرون من قبلكم‏}‏ أَيْ‏:‏ ما كان منهم ‏{‏أولوا بقية‏}‏ دينٍ وتميزٍ وفضلٍ ‏{‏ينهون عن الفساد في الأرض‏}‏ عن الشِّرك والاعتداء في حقوق الله والمعصية ‏{‏إلاَّ قليلاً‏}‏ لكن قليلاً ‏{‏ممن أنجينا منهم‏}‏ وهم أتباع الأنبياء وأهل الحقِّ، نهوا عن الفساد ‏{‏واتَّبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه‏}‏ آثروا الَّلذات على أمر الآخرة، وركنوا إلى الدُّنيا والأموال وما أُعطوا من نعيمها‏.‏

‏{‏وما كان ربك ليهلك القرى‏}‏ أَيْ‏:‏ أهلها ‏{‏بظلمٍ‏}‏ بشركٍ ‏{‏وأهلها مصلحون‏}‏ فيما بينهم، أَيْ‏:‏ ليس من سبيل الكفَّار إذا قصدوا الحقَّ في المعاملة أن يُنزِّل اللَّهُ بهم عذاب الاستئصال، كقوم لوطٍ عُذِّبوا باللِّواط، وقوم شعيب عُذِّبوا ببخس المكيال‏.‏

‏{‏ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة‏}‏ مسلمين كلَّهم ‏{‏ولا يزالون مختلفين‏}‏ في الأديان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119- 123‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏119‏)‏ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏120‏)‏ وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ‏(‏121‏)‏ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏122‏)‏ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

‏{‏إلاَّ من رحم ربك‏}‏ يعني‏:‏ أهل الحقِّ ‏{‏ولذلك خلقهم‏}‏ أَيْ‏:‏ خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرَّحمة للرَّحمة‏.‏

‏{‏وكلاًّ نقصُّ عليك‏}‏ أَيْ‏:‏ كلَّ الذي تحتاج إليه ‏{‏من أنباء الرسل‏}‏ نقصُّ عليك ‏{‏ما نثبت به فؤادك‏}‏ ليزيدك يقيناً ‏{‏وجاءك في هذه‏}‏ أَيْ‏:‏ في هذه السُّورة ‏{‏الحق‏}‏ يعني‏:‏ ما ذُكر من أقاصيص الأنبياء ومواعظهم، وذكر السَّعادة والشَّقاوة، وهذا تشريفٌ لهذه السُّورة؛ لأنَّ غيرها من السُّور قد جاء فيها الحقُّ ‏{‏وموعظة وذكرى للمؤمنين‏}‏ يتَّعظون إذا سمعوا هذه السُّورة، وما نزل بالأمم لمَّا كذَّبوا أنبياءهم‏.‏

‏{‏وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم‏}‏ أمر تهديد، أَيْ‏:‏ اعملوا ما أنتم عاملون‏.‏

‏{‏وانتظروا‏}‏ ما يعدكم الشَّيطان ‏{‏إنَّا منتظرون‏}‏ ما يعدنا ربُّنا من النَّصر‏.‏

‏{‏ولله غيب السموات والأرض‏}‏ أَيْ‏:‏ علم ما غاب عن العباد فيهما ‏{‏وإليه يرجع الأمر كله‏}‏ في المعاد حتى لا يكون لأحدٍ سواه أمرٌ ‏{‏وما ربك بغافل عما يعملون‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّه يجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءَته‏.‏

سورة يوسف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏2‏)‏ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏3‏)‏ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ‏(‏4‏)‏ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏5‏)‏ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏6‏)‏ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ‏(‏7‏)‏ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏8‏)‏ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏الر‏}‏ أنا الله الرَّحمن ‏{‏تلك‏}‏ هذه ‏{‏آيات الكتاب المبين‏}‏ للحلال والحرام، والأحكام، يعني‏:‏ القرآن‏.‏

‏{‏إنا أنزلناه‏}‏ يعني‏:‏ الكتاب ‏{‏قرآنا عربياً‏}‏ بلغة العرب ‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ كي تفهموا‏.‏

‏{‏نحن نقصُّ عليك أحسن القصص‏}‏ نبيِّن لك أحسن البيان ‏{‏بما أوحينا‏}‏ بإيماننا ‏{‏إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين‏}‏ وما كنتَ من قبل أن يُوحى إليك إلاَّ من الغافلين‏.‏

‏{‏إذ قال‏}‏ اذكر إذ قال ‏{‏يوسف لأبيه يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ رأى يوسف عليه السَّلام هذه الرُّؤيا، فلمَّا قصَّها على أبيه أشفق عليه من حسد إخوته له، فقال‏:‏

‏{‏يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً‏}‏ يحتالوا في هلاكك؛ لأنهم لا يعلمون تأويلها‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ ومثل ما رأيت ‏{‏يجتبيك ربك‏}‏ يصطفيك ويختارك ‏{‏ويعلمك من تأويل الأحاديث‏}‏ تعبير الأحلام ‏{‏ويتم نعمته عليك‏}‏ بالنبُّوَّة ‏{‏وعلى آل يعقوب‏}‏ يعني‏:‏ المُختَصِّين منهم بالنُّبوَّة ‏{‏على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إنَّ ربك عليم‏}‏ حيث يضع النبوَّة ‏{‏حكيم‏}‏ في خلقه‏.‏

‏{‏لقد كان في يوسف وإخوته‏}‏ أَيْ‏:‏ في خبرهم وقصصهم ‏{‏آيات‏}‏ عبرٌ وعجائبُ ‏{‏للسائلين‏}‏ الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأخبرهم بها وهو غافلٌ عنها لم يقرأ كتاباً، فكان في ذلك أوضح دلالةٍ على صدقه‏.‏

‏{‏إذ قالوا‏}‏ يعني‏:‏ إخوة يوسف‏:‏ ‏{‏ليوسفُ وأخوه‏}‏ لأبيه وأُمِّه ‏{‏أحبُّ إلى أبينا منا ونحن عصبة‏}‏ جماعةٌ ‏{‏إنَّ أبانا لفي ضلالٍ مبين‏}‏ ضلَّ بإيثاره يوسف وأخاه علينا‏.‏ ضلالٍ‏:‏ خطأ‏.‏

‏{‏اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً‏}‏ في أرضٍ يبعد فيها عن أبيه ‏{‏يخلُ لكم وجه أبيكم‏}‏ يُقبل بكليته عليكم ‏{‏وتكونوا من بعده قوماً صالحين‏}‏ تُحدثوا توبةً بعد ذلك يقبلها الله سبحانه منكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 15‏]‏

‏{‏قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏10‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏12‏)‏ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ‏(‏13‏)‏ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏14‏)‏ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏قال قائل منهم‏}‏ وهو يهوذا أكبر إخوته‏:‏ ‏{‏لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب‏}‏ في موضعٍ مظلمٍ من البئر لا يلحقه نظر النَّاظرين ‏{‏يلتقطه بعض السيارة‏}‏ مارَّة الطَّريق ‏{‏إن كنتم فاعلين‏}‏ ما قصدتم من التًّفريق بينه وبين أبيه، فلمَّا تآمروا بينهم ذلك وعزموا على طرحه في البئر‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ لأبيهم‏:‏ ‏{‏مالك لا تأمنا على يوسف‏}‏ لِمَ تخافنا عليه‏؟‏ ‏{‏وإنا له لناصحون‏}‏ في الرَّحمة والبرِّ والشَّفقة‏.‏

‏{‏أرسله معنا غداً‏}‏ إلى الصَّحراء ‏{‏نرتعْ ونلعبْ‏}‏ نسعى وننشط ‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏ من كلِّ ما تخافه عليه‏.‏

‏{‏قال إني ليحزنني أن تذهبوا به‏}‏ ذهابكم به يحزنني؛ لأنَّه يفارقني، فلا أراه ‏{‏وأخاف أن يأكله الذئب‏}‏ وذلك أنَّ أرضهم كانت مذأبة ‏{‏وأنتم عنه غافلون‏}‏ مشتغلون برعيتكم‏.‏

‏{‏قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة‏}‏ جماعةٌ بحضرته ‏{‏إنا إذاً لخاسرون‏}‏ لعاجزون‏.‏

‏{‏فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه غيابت الجب‏}‏ وعزموا على ذلك أوحينا إلى يوسف في البئر تقويةً لقلبه‏:‏ لتصدقنَّ رؤياك ولَتُخبِرِنَّ إخوتك بصنيعهم هذا بعد هذا اليوم ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ بأنَّك يوسف في وقت إخبارك إيَّاهم‏.‏